الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (56- 62): {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}قوله تعالى: {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى} قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة.وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى.وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الامة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر، والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار، أي هذا إنذار لكم.وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى.وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ} إلى قوله: {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى} كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده، كما قال: {يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً}.وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها، لان كل ما هو آت قريب. قال:وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وافد، ومنه قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد: قلت لأعرابي ما المحبنطئ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ} أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها.وقيل: كاشفة أي انكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله، فالكاشفة اسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية، كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء.وقيل: أي لا أحد يرد ذلك، أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف، أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة.وقيل: إن {كاشِفَةٌ} بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية. قوله تعالى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ {تَعْجَبُونَ} تكذيبا به {وَتَضْحَكُونَ} استهزاء {وَلا تَبْكُونَ} انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما روى بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما.وقال أبو هريرة: لما نزلت {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} قال أهل الصفة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده رجل يبكي، فقال له: «من هذا؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم». قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سامِدُونَ} أي لاهون معرضون. عن ابن عباس، رواه الوالبي والعوفي عنه.وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير، يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا.وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون.وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد، قال: سوامد الليل خفاف الأزواد يقول: ليس في بطونها علف.وقال ابن الاعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي، يقال للقينه: أسمدينا، أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سراجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى {سامِدُونَ} أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة.وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الامام، ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: «مالي أراكم سامدين» حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال: «مالكم سامدون» قاله المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض.وقال المبرد: سامدون خامدون، قال الشاعر: وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ} لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذكره النحاس. قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. وهو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد فيها وسجد معه المشركون.وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى.وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضي، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما تقدم بيانه في الحج. فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا، فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم.وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر، كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك.وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر الأعراف مبينا والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة والنجم. .سورة القمر: سورة القمر مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات من قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} إلى قوله: {وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} ولا يصح على ما يأتي. وهي خمس وخمسون آية..تفسير الآيات (1- 8): {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {اقْتَرَبَتِ} أي قربت مثل: {أزفت الآزفة} على ما بيناه. فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة، لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى» وما نرى من الشمس إلا يسيرا.وقال كعب ووهب: الدنيا ستة ألاف سنة. قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس. ثم قال تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة {اقتربت الساعة وقد انشق القمر} بزيادة {قد} وعلى هذا الجمهور من العلماء، ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال: انشق القمر فرقتين.وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر، أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر، وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي: أن هذا قول الجمهور، وقال: لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه، لأنه آية والناس في الآيات سواء.وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية.وقيل: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي وضح الامر وظهر، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح، قال:وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقا، لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة: قلت: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليليه، وأنها كانت باستدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قيل: هو على التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة، قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى}. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فعلت تؤمنون» قالوا: نعم؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينادي المشركين: «يا فلان يا فلان اشهدوا».وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش: هذا من سحر ابن أبي كبشة، سحركم فاسألوا السفار، فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرضوا عن الايمان {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب، من قولهم: مر الشيء واستمر إذا ذهب، قاله أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس.وقال أبو العالية والضحاك: محكم قوي شديد، وهو من المرة وهي القوة، كما قال لقيط: وقال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله.وقيل: معناه مر من المرارة. يقال: أمر الشيء صار مرا، وكذلك مر الشيء يمر بالفتح مرارة فهو مر، وأمره غيره ومره.وقال الربيع: مستمر نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل.وقيل: دائم. قال: أي بدائم.وقيل: يشبه بعضه بعضا، أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات.وقيل: معناه قد مر من الأرض إلى السماء. {وَكَذَّبُوا} نبينا {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} أي ضلالاتهم واختياراتهم. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة {مستقر} بفتح القاف، أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع {وكل أمر مستقر} بكسر القاف والراء جعله نعتا لأمر و{كل} على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة، المعنى: اقتربت الساعة وكل أمر مستقر، أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن {كل}. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ} أي من بعض الانباء، فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ} أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية {ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا، لان التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و{مُزْدَجَرٌ} من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال: وقرئ: {مزجر} بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها، حكاه الزمخشري. {حِكْمَةٌ بالِغَةٌ} يعني القران وهو بدل من {ما} من قوله: {ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ}. ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هو حكمة. {فَما تُغْنِ النُّذُرُ} إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ف {فَما} نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم وهم معرضون عنها. و{النُّذُرُ} يجوز أن تكون بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون جمع نذير. قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف.وقيل: هو تمام الكلام. ثم قال: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} العامل في {يَوْمَ} {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ} أو {خُشَّعاً} أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم.وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الامر، تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي.وقيل: تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي.وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون {إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ} وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم.وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير {نكر} بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل، ومعناه الامر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرءا {إلى شيء نكر} بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. {خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ} الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار لان أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان، قال الله تعالى: {أَبْصارُها خاشِعَةٌ} وقال تعالى: {خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {خاشعا} بالألف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: {خاشعا أبصارهم} والتأنيث نحو: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} ويجوز الجمع نحو: {خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ} قال: و{خُشَّعاً} جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في {عَنْهُمْ} فيقبح الوقف على هذا التقدير على {عَنْهُمْ}. ويجوز أن يكون حالا من المضمر في {يَخْرُجُونَ} فيوقف على {عَنْهُمْ}. وقرئ: {خشع أبصارهم} على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ} أي القبور واحدها جدث. {كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}.وقال في موضع آخر: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ} فهما صفتان في وقتين مختلفين، أحدهما: عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها، الثاني: فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر، لان الجراد له جهة يقصدها. و{مُهْطِعِينَ} معناه مسرعين، قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر: الضحاك: مقبلين. قتادة: عامدين. ابن عباس: ناظرين. عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال: هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشيء ببصره لا يقلع عنه، وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر: وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. {يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.
|